بعض أحكام التشريع

المؤلف: مصطفى ديب البغا،
محيى الدين ديب مستو

التدرج في التشريع:

قضت إرادة الله أن يتم الإصلاح الاجتماعي بصورة تدريجية؛ لأنه ليس من الممكن أن ينقلب المجتمع الجاهلي الفاسد بين عشية وضحاها إلى مجتمع صالح، فكانت آيات القرآن تراعي الانقلاب التدريجي، وتراعي بناء الأسس الثابتة لهذا التغيير، فنزلت أولا الآيات المتعلقة بالعقيدة ودلائلها، والآيات الداعية إلى محاسن الأخلاق، حتى إذا آمن الناس وزكت نفوسهم نزلت آيات الحلال والحرام في تدرج حكيم. ويدل على ذلك ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر.

لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنى [1].

مسايرة الحوادث:

وإيجاد الحلول المناسبة للحوادث الطارئة، لتكون آيات القرآن أوقع في النفس وألصق بالحياة؛ ومن ذلك:
لما توفي عبد الله بن أبيّ- رأس المنافقين- دعي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للصلاة عليه، فقام عليه، فلما وقف قال عمر: أعلى عدوّ الله عبد الله بن أبي القائل كذا وكذا، والقائل كذا وكذا؟ يعدّد أيامه. ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبتسم، ثم قال له: «إني قد خيّرت، قد قيل لي: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 80] فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر لزدت عليها». ثم صلّى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومشى معه حتى قام على قبره حتى فرغ منه، قال عمر: فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والله ورسوله أعلم، فو الله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان:

﴿وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ.. ﴾ [التوبة: 84] فما صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على منافق بعد حتى قبضه الله عزّ وجلّ [2].


وحين تخلّف نفر من المؤمنين الصادقين في غزوة تبوك، وأقاموا بالمدينة، ولم يجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لديهم عذرا، هجرهم وقاطعهم، حتى ضاقوا ذرعا بالحياة، ثم نزل القرآن بقبول توبتهم، فكان درسا في عدم التخلف عن الجهاد لا يمكن أن ينساه أو يتجاهله أي مسلم، قال تعالى:
﴿لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ* وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 117 – 118][3].


الدلالة القاطعة على أن القرآن كلام الله وحده:

لقد عرفت أن هذا القرآن نزل مفرقا على رسول الله في مدة ثلاثة وعشرين عاما، تنزل منه الآية أو الآيات في فترات زمنية مختلفة، ومع ذلك فإنك تجده من أوله إلى آخره محكم السرد، دقيق السبك، متين الأسلوب، قويّ الاتصال، آخذا بعضه برقاب بعض في سوره وآياته وجمله، وكأنه عقد فريد نظمت حباته بشكل دقيق وفريد بما لم يعهد له مثيل من كلام البشر لا من قبل ولا من بعد. قال تعالى: ﴿الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [هود: 1].

وهذا التناسق وعدم الاختلاف في أسلوب القرآن أكبر دليل على أنه كلام الله العليم الحكيم؛ إذ لو كان من كلام المخلوقين لظهر فيه الاختلاف من سنة إلى أخرى؛ قال تعالى: ﴿وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ﴾ [النساء: 82]. وحتى أحاديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رغم أنها في ذروة الفصاحة والبلاغة بعد القرآن، فإنها لا تنتظم حباتها في كتاب واحد سلس العبارة فيه وحدة وترابط كالقرآن، أو ما يدانيه في الاتساق والانسجام.

توثيق وقائع السيرة النبوية:

والدلالة من خلال الآيات القرآنية المنجمة على أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم خاتم النّبيّين، وتشكّل السيرة النبوية من خلال الحوادث، وضمّها إلى قصص الأنبياء، وسير المرسلين، وحياة الأمم السابقين [4]، وتوثيق ذلك إلى درجة التواتر، ورسم القواعد التي تبنى وفقها السيرة النبوية بوصفها المقدمة للتاريخ الإسلامي منذ جيل الصحابة وحتى عصرنا الحاضر.

الواضح في علوم القرآن


[1] رواه البخاري في فضائل القرآن (4707) والمفصل: من أول سورة (ق) إلى آخر القرآن. وانظر فتح الباري (9/ 43).

[2] رواه البخاري في التفسير (4394) و (4395).

[3] رواه البخاري في المغازي (4156) والتفسير (4399 – 4410).

[4] للتوسع في توضيح هذه الحكمة انظر كتاب «مدخل إلى تفسير القرآن» للدكتور عدنان زرزور (ص 97).

ترك تعليق