باب يحمل فيه الاسم على اسم يبنى عليه الفعل

المؤلف: أبو العباس النحوي (المتوفى: ٣٣٢ هـ)

مرة ويحمل مرة أخرى على اسم مبني على الفعل، قال: تقول: زيد ضربته وعمرو كلمته، إن حملت عمرا على زيد، وإن حملته على الهاء نصبته، قال: وعلى هذا يقول: القائل: من رأيت؟ فتقول: زيدا رأيته، تحمله على كلام المبتدئ ليكون العمل من وجه واحد، واحتج بأن القائل يقول: من رأيت؟ فتقول: زيدا، على كلامه، فهذا ها هنا نظير العطف فيما صدر به، وزعم أن القائل إذا قال: من رأيته؟ لم يجز أن تقول في الجواب إلا بالرفع، فتقول: زيد رأيته، إلا في قول من قال في الابتداء: زيدا رأيته، وقد نقض قوله في العطف: إن حملته على الهاء نصبت، والقول إن حملته على الهاء أن تقول: زيدا رأيته كما قلت: زيد ضربته وعمرا كلمته حين حملته على الهاء، وهذا قول أبي الحسن الأخفش، وهذا قياس قول سيبويه في العطف.

وقال سيبويه: قولك: من رأيته؟ إنما هو بمنزلة قولك: من منطلق؟ ومن رسول؟ فلذلك أجري ما بعده مجرى ما ليس قبله مفعول، وهذا يلزمه في الأول، لأن قولك: زيد ضربته وعمرو كلمته، ضربته في موضع منطلق وما أشبهه، وقد طعن في هذا الموضع أبو إسحاق الزيادي وأبو الحسن الأخفش، وزعما أنه لا يجوز زيد ضربته وعمرا كلمته، ولا يكون في عمرو إلا الرفع، لأن قوله: زيد ضربته جملة لها موضع، ويريد إذا أضمر قبل عمرو فعلا أن يعطفه، وهي جملة لا موضع لها على تلك، وإنما صار لقولك: ضربته موضع، لأنها في موضع خبر الابتداء، فموضعها الرفع، والمعطوف لا موضع له، لأنه بمنزلة زيد لقيته، ولا موضع للجملة، والقياس الذي لا يجوز غيره ما قالا، لأنه لا يجوز أن تعطف جملة لا موضع لها على جملة لها موضع، والمعطوف على الشيء في مثل حاله.

قال أحمد: أما قول محمد: إنه لا يجوز أن تعطف جملة لا موضع لها فهذه دعوى لم يأت معها /١٤/ بحجة تبينها، وليس الأمر في ذلك على ما ذكر، ونحن نجد في الكلام جملة لا موضع لها معطوفة على جملة لها موضع، يجمع النحويون على إجازتها، ولا يمتنع الراد من ذلك فيها، وهو قولك: مررت برجل قام أبوه وقعد عمرو، فقام أبوه جملة في موضع جر لأنها نعت لرجل، وقد عمرو معطوفة عليها وليست في موضع جر، لأنك لا تقول: مررت برجل قعد عمرو، إذ ليس في الجملة الثانية ضمير يعود على رجل فيكون نعتا له، وكذلك، إذا قلت: زيد يضرب غلامه فيغضب عمرو، فيضرب غلامه رفع لأنه خبر المبتدأ، ويغضب عمرو معطوف عليه، وليس في موضع رفع، لأنه لا عائد فيه على المبتدأ، وليس سبيل عطف الجمل أن يكون الثاني محمولا على الأول في لفظ ولا موضع بالواجب على كل حال، ألا ترى أن الجملتين قد تختلفان فتكون إحداهما مبنية من اسمين والأخرى “مبنية” من اسم وفعل، فتقول: أخطأ زيد والله المستعان، فالأولى من اسم وفعل، والثانية من اسمين، وتعطف المبني على المعرب والمعرب على المبني في الجمل، فتقول: قم وليقم زيد، وتقول: ليقم زيد وقم وتعطف الأمر على الخبر والخبر على الأمر كقولك: قام زيد فقم، وقم فقد قام زيد. فالجمل تعطف على الجمل مع اختلاف أحوالها وتباين مجاريها في معانيها، فكيف لا تعطف مع اختلاف مواضعها، وإذا كانت الجملة لا يلزم فيها أن تتبعها الجملة في لفظها، كذلك لا يلزم في كل حال أن تتبعها في موضعها، ألا ترى أنك تقول: إن زيدا قائم وعمرا جالس، فتأتي بلفظ الجملة الثانية كلفظ الأولى وتحملها عليها، وإن شئت لم تفعل ذلك، فتقول: إن زيدا قائم وعمرو جالس، فأنت فيما ينساغ لك أن تحمله على الأول، مخير في حمله عليه، أو ترك ذلك، فكيف فيما لا ينساغ لك البتة أن تحمله على الأول، فقياس ما تحمله من الجمل على الموضع كقياس ما تحمله على اللفظ، فتكون مخيرا فيما يجوز وينساغ حمله على الموضع أو ترك ذلك، نحو قولك: زيد ضربت أباه ثم ضربت عمرا، فهذا معطوف على ضربت، ولا يجوز حمله على موضعه في الإعراب، فأما /١٥/ ما يجوز فقولك: زيد ضربت أباه ثم ضربت أخاه، فقولك: ضربت أخاه، فيجوز أن تحمله على موضع زيد ضربت أباه ثم ضربت أخاه، فقولك: ضربت يجوز أن تحمله على موضع ضربت أباه في الإعراب، وقد اتفقوا جميعا- والراد معهم- على أنه يجوز زيد ضربته وعمرا كلمته، فينصبون عمرا على ما كان يجوز في الابتداء، والذي يضمرونه في العطف هو الذي يضمرونه في الابتداء، وليس يذهب سيبويه إلى أن يعطف عمرا على الهاء، وإنما مذهبه أن يكون بناء الجملة الثانية كبناء الجملة التي قبلها، فهم منفقون على جواز ذلك، وإنما الفرق بينهم قول سيبويه: إن جواز النصب فيها إذا كانت معطوفة أحسن من جوازه في الابتداء، ولم يرد أن يحمل اسما على اسم ولا إعرابا على إعراب، ألا ترى أنه يقول: قام زيد وعمرا كلمته، أحسن في الإعراب، لأنه يجعل الاسم محمولا على الفعل في الجملة الثانية كما جعله في الأولى، وإن كان الفعل الأول رافعا والثاني ناصبا.

وأما إلزامه في قولك: من رأيته؟ أن تحمل الجواب مرة على (من) فترفع وتقول: زيد، ومرة على الهاء، فننصب وتقول: زيدا، فإن هذا [وإن لم يكن] قياس قوله في العطف، فهو لعمري يشبه العطف في حال ويخالفه في أخرى، وكذلك جعله سيبويه شبه العطف، فلأنك تحمل الجواب على ما حمل عليه السائل كلامه كما تحمل المعطوف (على المعطوف) عليه، وذلك قول سيبويه: إذا قال القائل: من رأيت؟ قلت: زيداً رأيته، فحملت زيدا على إعراب (من)، لأنه جواب عنها.

وأما مخالفته لباب العطف، فإنك إذا قلت: زيد ضربته وعمرو كلمته، فأنت مخير في الحمل على أي الجملتين شئت، فجاز الوجهان، والمجيب فإنما يجتهد في إعراب ما بنى عليه المبتدئ كلامه، فالسائل مانع له من أن يكون مخيرا.

فإن قال: فإذا قال السائل: من رأيته؟ فقد أتى بجملتين: إحداهما محمول فيها الاسم على الفعل، وهي الهاء في رأيته، والأخرى محمول فيها الفعل على الاسم، لأن (من) هو الاسم المبتدأ، والفعل خبر عنه.

قيل له: سبيل الاسم الذي في الجواب أن يكون إعرابه كإعراب الاسم المستفهم به /١٦/، فإن قال السائل: من قام؟

قلت في الجواب: زيد، وإن قال: من ضربت؟ قلت في الجواب: زيدا، وكذلك إذا قال: من رأيته وأيهم رأيته؟ قلت: زيد في الجواب، فتحمله على إعراب (من) لا إعراب الهاء، لأن زيدا مفسر لـ (من)، فهذا وجه الكلام.

وكذلك إذا قلت: أي الرجلين لقيته أزيدا أم عمرو؟ وأي الرجلين لقيت أزيدا أم عمرا؟ فها هنا جملتان لعمري كالعطف في المسألة الأولى، إلا أن الحمل على إحداهما أولى من [الحمل على] الأخرى، بسبب ما ذكرنا من أن الجواب والتفسير محمول على الاسم المستفهم به، وهو أولى من الهاء، وإن كانت الهاء عائدة عليه، فأما العطف على الجملتين فليست إحداهما أولى من الأخرى بحال تزيد بها عليها.

وأما قول الأخفش: إن الهاء هي (من) في المعني، فلم تكن بهذا تستوجب الحمل عليها دون (من) يستفهم بها والجواب عنها، والهاء لا يستفهم بها، ومع هذا فقد يجوز النصب في قول سيبويه على ما كان يجوز في الابتداء، فهو حمل ما ذكره الأخفش وليس بالوجه عنده ولا عند غيره.

ترك تعليق