‌‌باب القول في الإعراب، لم دخل في الكلام

 
المؤلف: أبو القاسم الزَّجَّاجي (المتوفى: ٣٣٧ هـ)
المحقق: الدكتور مازن المبارك
فإن قال: فقد ذكرت أن الإعراب داخل في الكلام، فما الذي دعا إليه واحتج إليه من أجله؟
الجواب أن يقال: إن الأسماء لما كانت تعتورها المعاني، فتكون فاعلة ومفعولة، ومضافة، ومضافاً إليها، ولم تكن في صورها وأبنيتها أدلة على هذه المعاني بل كانت مشتركة، جُعلت حركات الإعراب فيها تنبئ عن هذه المعاني، فقالوا ضرب زيد عمراً، فدلوا برفع زيد على أن الفعل له، وبنصب عمرو على أن الفعل واقع به. وقالوا ضُرب زيد، فدلوا بتغيير أول الفعل ورفع زيد على أن الفعل ما لم يسم فاعله وأن المفعول قد ناب منابه. وقالوا هذا غلام زيد، فدلوا بخفض زيد على إضافة الغلام إليه، وكذلك سائر المعاني جعلوا هذه الحركات دلائل عليها ليتسعوا في كلامهم، ويقدموا الفاعل إن أرادوا ذلك أو المفعول عند الحاجة إلى تقديمه، وتكون الحركات دالة على المعاني.

 

هذا قول جميع النحويين إلا قطربا فإنه عاب عليهم هذا الاعتلال، وقال لم يُعرب الكلام للدلالة على المعاني، والفرق بين بعضها وبعض، لأنا نجد في كلامهم أسماء متفقة في الإعراب مختلفة المعاني، وأسماء مختلفة الإعراب متفقة المعاني، فما اتفق إعرابه واختلف معناه قولك إن زيداً أخوك. ولعل زيداً، أخوك. وكأن زيداً أخوك. اتفق إعرابه واختلف معناه. ومما اختلف إعرابه واتفق معناه قولك ما زيد قائماً، وما زيد قائم، اختلف إعرابه واتفق معناه. ومثله: ما رأيته منذ يومين، ومنذ يومان، ولا مال عندك؛ ولا مالٌ عندك، وما في الدار أحداً إلا زيد، وما في الدار أحد إلا زيداً. ومثله؛ أن القوم كلهم ذاهبون وأن القوم كلهم ذاهبون، ومثله (إن الأمر كلَّه لله) و (إن الأمر كلُّه لله) قرئ بالوجهين جميعاً. ومثله ليس زيد بجبان ولا بخيلٍ ولا بخيلاً. ومثل هذا كثير جداً مما اتفق إعرابه واختلف معناه، ومما اختلف إعرابه واتفق معناه.

 

قال: فلو كان الإعراب إنما دخل الكلام للفرق بين المعاني، لوجب أن يكون لكل معنى إعراب يدل عليه لا يزول إلا بزواله. قال قطرب: وإنما أعربت العرب كلامها لأن الاسم في حال الوقف يلزمه السكون للوقف، فلو جعلوا وصله بالسكون أيضاً لكان يلزمه الإسكان في الوقف والوصل، وكانوا يبطئون عند الإدراج فلما وصلوا وأمكنهم التحريك، جعلوا التحريك مُعاقباً للإسكان، ليعتدل الكلام. ألا تراهم بنوا كلامهم على متحرك ساك، ومتحركين وساكن، ولم يجمعوا بين ساكنين في حشر الكلمة ولا في حشو بيت، ولا بين أربعة أحرف متحركة، لأنهم في اجتماع الساكنين يبطئون، وفي كثرة الحروف المتحركة يستعجلون وتذهب المهلة في كلامهم، فجعلوا الحركة عقب الإسكان.

 

قيل له: فهلا لزموا حركة واحد لأنها مجزئة لهم إذ كان الغرض إنما هو حركة تعتقب سكونا؟ فقال: لو فعلوا ذلك لضيقوا على أنفسهم فأرادوا الاتساع في الحركات وألا يحظروا على المتكلم الكلام إلا بحركة واحدة.

 

هذا مذهب قطرب واحتجاجه. وقال المخالفوم له ردا عليه: لو كان كما زعم لجاز خفض الفاعل مرة، ورفعه أخرى ونصبه، وجاز نصب المضاف إليه، لأن القصد في هذا إنما هو الحركة تعاقب سكونا يعتدل به الكلام. وأي حركة أنى بها المتكلم أجزأته فهو مخير في ذلك. وفي هذا فساد للكلام، وخروج عن أوضاع العرب وحكمة نظام كلامهم. واحتجوا لما ذكره قطرب من اتفاق الإعراب واختلاف المعاني، واختلاف الإعراب واتفاق المعاني في الأسماء التي تقدم ذكرها بأن قالوا إنما كان أصل دخول الإعراب في الأسماء التي تذكر بعد الأفعال، لأنه يذكر بعدها اسمان أحدهما فاعل والآخر مفعول، فمعناهما مختلف فوجب الفرق بينهما، ثم جعل سائر الكلام على ذلك. وأما الحروف التي ذكرها فمحمولة على الأفعال، ولكل شيء مما ذكره علة تمر بك في بابه إن شاء الله تعالى.

 

المصدر: الإيضاح في علل النحو