علوم اللغة العربية

عناصر الموضوع:

مقدمة ..

‌‌ مبدأ وضع علم العربية

أوَّلُ مَن وَضَعَ النَّحْوَ

المنْهاجُ المختصر

 

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأشْهَدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وأشْهَدُ أن محمداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وَصَحْبِهِ وسَلَّمَ تَسليماً كَثيراً.

أما بعْدُ ..

فإن أشْرَفَ العلومِ على الإطلاقِ ما عَرَّفَ باللَّهِ تعالى وشَرائعهِ؛ ذلكَ لِما يتحقَّقُ بهِا من وَصْلِ العِبادِ برَبِّهم تَبارَكَ وتعالى، وإنَّهُ بمقدارِ ما يكونُ ذلكَ الوَصْلُ تَكونُ منزِلَةُ ذلكَ العلمِ، وعُلومُ العربيَّةِ كالنَّحْوِ والصَّرْفِ والبَلاغَةِ عُلومٌ اصْطِلاحيَّةٌ، قنَّنَها النَّاسُ لمَّا رأَوا الضَّرورَةَ داعِيَةً إليها، لعِصْمَةِ اللِّسانِ مِنَ اللَّحْنِ في كَلامِ اللهِ وكَلام نَبيِّهِ – صلى الله عليه وسلم -، وعِصْمَةِ الفِكْرِ مِنَ الشَّطَطِ في الفَهْمِ، وذلكَ لأنَّ اللهَ تعالى قَد أنْزَلَ الكِتابَ عَربيَّا، جرى نَظمُهُ وتأليفُهُ على نَهْجِ لِسانِ العَرَبِ، بتراكيبهِم وألْفاظِهِمْ، كما قالَ سُبْحانَهُ: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ [الشُّعراء:١٩٢ – ١٩٥] وَقالَ: ﴿ قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ﴾ [الزُّمَر: ٢٨]، فتِلاوَةُ الكِتابِ طَريقُ فَهْمِهِ وعَقْلِهِ، فمَن وَقَعَ في اللَّحْنِ في تِلاوَتِهِ فلم يقرأْهُ عَرَبيًّا كَما أنْزِلَ، ومن ثَم فربَّما أوْقَعَهُ ذلكَ في خطأِ الفَهْمِ بسَبَبِ لَحْنهِ في اللَّفْظِ، بَلْ رُبَّما أوْقَعَهُ في الخطَأِ على رَبِّهِ تَبارَكَ وتعالى.

وإن العُجْمَةَ حينَ شاعَت في النَّاسِ؛ أوْجَبَ ذلكَ أن يصيرَ العُلماءُ إلى تَقنينِ الضَّوابِطِ لتَستَقيمَ الألسُنُ بتِلاوَةِ القرآنِ، وهذا أصْلُ ما قَصَدُوهُ، لكنَّها صارَت قوانينَ عامَّةً للُغَةِ العَرَبِ، مطلوبَةً في كُلِّ كَلامٍ عَربيٍّ، إذْ قُبْحُ اللَّحْنِ في كلِّ كَلامٍ قدْ يترتَّبُ عليهِ ضَرَرٌ كَبيرٌ، فإنَّ النَّاسَ إنَّما يُظْهِرونَ مُرادَهُم باللُّغاتِ، فإذا اختَلَّت اللُّغَةُ فَسَدَ الكلامُ ولم يُدْرَكِ المرادُ.

مِن هُنا تأتي أهميَّةُ معرِفَةِ عُلومِ العَربيَّةِ، لنقرأَ القرانَ كَما أنْزَلَهُ اللهُ على مُحمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم -، ولنقرأ الْحَديثَ عَن رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- على وَجْهِهِ، ولنَفْهَمَ كَلامَ أهْلِ العِلمِ على مُرادهِمْ، ونُحْسِنَ الإبانَةَ عَمَّا نُريدُ في خُطْبَةٍ أو حَديثٍ أو كلامٍ مكْتوبٍ على الوَجْهِ.

‌‌مبدأ وضع علم العربية:

أكْثَرُ النَّقَلَةِ أنَّ أوَّلَ مَن تَكَلَّمَّ بقَوانينِ الْعربيَّةِ هُوَ أبو الأسْوَدِ الدُّؤليُّ رَجُلٌ مِن أهْلِ البَصْرَةِ من خِيارِ التَّابعينَ، مِمَّن رأى عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ وكانَ معَ عليِّ بنِ أبي طالِبٍ، (توفّيَ سنةَ: ٦٩هـ) [1].

قيلَ: إنَّ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ أمَرَهُ بوَضْعِ عِلمِ النَّحْوِ، وهذا ضَعيفٌ[2]، وقيلَ: بلْ أمَرَهُ عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وهذا أصحُّ على ضَعْفٍ فيهِ [3].

كما نُقِلَ أنَّ أوَّلَ مَن تكلَّمَ بأصولِ النَّحْوِ هُوَ أميرُ المؤمنينَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ، ذكَرَ أشياءَ في تَقسيمِ الكَلِمَةِ، وأعطى ذلكَ لأبي الأسْوَدِ فبَنى عليهِ [4].

كَما حُكِيَت في سَبَبِ ذلكَ أخْبارٌ. وأصَحُّ ما وَقَفْتُ عليهِ في شأنِ ما تقدَّمَ، قولُ الإمامِ عاصِمِ بنِ أبي النَّجودِ:

أوَّلُ مَن وَضَعَ النَّحْوَ:

أبو الأسْوَدِ الدُّؤَليُّ، جاءَ إلى زِيادٍ[5] بالبَصْرَةِ، فقالَ: إنِّي أرى العَرَبَ قدْ خالَطَتْ هذهِ الأعاجِمَ وتغيَّرَتْ ألْسِنَتُهُم، أفتأذَنُ لي أن أضَعَ للعَرَبِ كَلاماً يَعْرِفونَ أو يُقيمُونَ بهِ كَلامَهُم؟ قالَ: لا، فجاءَ رَجُلٌ إلى زِيادٍ، فقالَ: أصْلَحَ اللهُ الأميرَ، تُوفِّيَ أبانا وتَرَكَ بَنوناً، فقالَ زِيادٌ: تُوفِّيَ أبانا وتَرَكَ بَنوناً! ادْعُ لي أبا الأسْوَدِ، فقالَ: ضَعْ للنَّاسِ الَّذي نَهَيْتُكَ أن تَضَعَ لهُم [6].

قالَ الأديبُ مُحمَّدُ بنُ سَلَاّمٍ الجُمَحيٌّ:

“كانَ أوَّلَ مَنْ أسَّسَ العربيَّةَ وفتَحَ بابَها وأنْهجَ سَبيلَها ووَضَعَ قِياسَها أبو الأسْوَدِ الدُّؤَليُّ … ، وإنَّما قالَ ذلكَ حينَ اضْطَرَبَ كَلامُ العَرَبِ، فغَلَبَتِ السَّليقيَّةُ [7]، ولم تَكُن نحويَّةً، فكانَ سَراةُ الناسِ يَلْحَنونَ ووُجوهُ النَّاسِ، فوَضَعَ بابَ الفاعِلِ، والمفعولِ بهِ، والمُضافِ، وحُروفِ الرَّفْعِ والنَّصْبِ وَالَجَرِّ والجَزْمِ” [8].

ثُمَّ صارَ هذا العلمُ إلى مَن بَعْدَ أبي الأسْوَدِ، فزادُوا فيهِ وبيَّنُوا، ثُمَّ جاءَ زَمَنُ التَّصْنيفِ فصنَّفوا فيهِ وحَرَّروا، وتعدَّدَت فيه المدارِسُ، وعَظُمَ في معرِفَتِهِ التَّنافُسُ، وصارَ هذا العلمُ لكُلِّ أصْحابِ الفُنونِ آلَةً لا بُدَّ من حَوْزِها.

وكانَ هذا بالنِّسْبَةِ إلى علمَي النَّحْوِ والصَّرْفِ، أمَّا علمُ البَلاغَةِ فتَقنينُهُ متأخِّرٌ عنهُما، والحاجَةُ إليهِ ماسَّةٌ لكنَّهُ دونَهُما.

المنْهاجُ المختصر:

وهذا المنْهاجُ بينَ يدَيْكَ قصَدْتُ بهِ تقريبَ الأصولِ النَّحويَّةِ والصَّرفيَّةِ لغيرِ المتخصصِ في فنونِ العربيَّةِ، جارٍ على منْهاجِ التَّقسيمِ الْحَديثِ، معَ الاعتِناءِ بالتَّمثيلِ مِنَ الكِتابِ العَزيزِ، معْرِضاً عنِ الشِّعْرِ ما دُمْتُ أجِدُ المثالَ بآيَةٍ؛ لأنِّي وضَعْتُ هذا المنْهاجَ في الأصْلِ كحَلْقَةٍ في سِلْكِ منْهاجٍ تثقيفيٍّ متكامِلٍ كمقدِّماتٍ لفَهْمِ العُلومِ الإسْلاميَّةِ، وهُوَ الحَلْقَةُ الأولى في هذا السِّلْكِ؛ لعِظَمِ خَطَرِهِ ورِفْعَةِ قَدْرِهِ، ولأنَّهُ قاعِدَةٌ لِما وراءَهُ.

وأنَبِّهُ إلى أنِّي لم أضمِّنْهُ التَّمريناتِ مع أهمِّيَّتِها في هذا الفَنِّ؛ لانِّي أعدَدْتُهُ لأشرَحَهُ بنَفْسي للطُّلَّابِ، وكنْتُ فعَلْتُ ذلكَ مرَّاتٍ، ولا أزالُ، ورأيْتُ إقْبالَ الكثيرينَ عليهِ، بل شوَّقَهُم أسْلوبُ عَرْضِهِ إليهِ، فرأيْتُ نَشْرَهُ لتَحقيقِ عُمومِ نَفْعِهِ، غيرَ أنِّي أنْصَحُ الطَّالِبَ أن يدْرُسَهُ على أسْتاذٍ بالفَنِّ عارفٍ؛ فذلكَ أنْفَعُ لَهُ وأيْسَرُ عليهِ.

واللهَ وَحْدَةُ أسْألُ التَّوفيقَ والتَّسْديدَ، وأسْتغفِرُهُ مِنَ الزَّلَلِ والتَّقصيرِ، إنَّهُ عَفُوٌّ كَريمٌ.

 

المصدر: المنهاجُ المختَصر في عِلمي النَّحو وَالصَّرف


[1] اسْمُ أبي الأسوَد على الأشْهَر: ظالمُ بنُ عَمْرٍو. انظُر ترجمته في: سير أعلام النُّبلاء، للذهبي (٤/ ٨١).

[2] أخرَجَهُ ابنُ الأنِباريِّ في “الوقف والابتداء” (١/ ٣٨ – ٣٩ رقم: ٥٨).

[3] أخرَجَهُ أبو الطَّيِّب عبدُ الواحد بنُ عليٍّ في “مراتب النحويين” (ص: ٢٤) وغيرُهُ.

[4] ذكَرَهُ الذَّهبيُّ في “السِّير” (٤/ ٨٣ – ٨٤).

[5] هوَ زِيادُ بنُ أبيهِ الثِّقفيُّ والي العِراق، مات سنة (٥٣هـ).

[6] أثَرٌ جيِّدُ الإسْنادِ. أخرَجَهُ ابنُ الأنْباريِّ في “الوقف والابتداء” (١/ ٤٢ – ٤٣ رقم:٦١).

[7] السَّليقيَّة: يعني ما يأتي بالسَّليقَة من غير قَصدِ إعرابٍ ولا تجنُّبِ لَحْنٍ.

[8] طبقات فحول الشُّعراء، لابن سلَاّم (١/ ١٢).

اضغط على أيقونة رابط قناتنا على التليجرام

ترك تعليق